عندما يعود السيد حسن نصر الله الى بيته فإنه يترك أعباءه عند "العتبة"، ليصبح فقط زوجاً وأباً مهتماً، ولكن أيضاً رجلاً يعيش حياته الخاصة وإيمانه.
يقرأ كثيراً، وخاصة مذكرات الشخصيات السياسية. منذ بعض الوقت يقرأ "مذكرات شارون"، وينوي أن يعاود قريباً قراءة كتاب نتنياهو "مكان تحت الشمس"، وهذا دليل على أنه يجد من الهام التعرف جيداً على العدو.
وبالنسبة إليه، فإنّ الحزب ليس مقاومة فقط، إنه اليوم حامل لفكر سياسي عام مبني بشكل طبيعي على الإسلام: "بالنسبة إلينا، باختصار، الإسلام ليس ديناً بسيطاً من الطقوس والأذكار ولكنه فعلاً رسالة إلهية خاصة بالبشرية ويجيب على أي سؤال يمكن أن يطرحه الإنسان في حياته الخاصة أو العامة. الإسلام هو دين لمجتمع قادر على الثورة وتشييد دولة". غير أنّ السيد حسن نصر الله يضيف - ليكون صادقاً ومنطقياً مع نفسه - أنه لا يستطيع أن ينفي أنّ حزب الله يطمح على المستوى الإيديولوجي والنظري الى إقامة "جمهورية إسلامية" يوماً ما. لأنّ "الحزب اللهيين" يعتقدون أنّ الدولة الإسلامية تشكّل الحل للمجتمع، وإن كان مجتمعاً تعددياً متضمناً لأقليات. لكنه يوضح فوراً أنه ليس من المطروح فرض جمهورية إسلامية بالقوة والإكراه، مضيفاً أنّ إعطاء الحكم هو للشعب وليس على أساس الأغلبية المطلقة لـ 51 في المئة وإنما على أساس شبه الإجماع كـ 90 في المئة من الأصوات. وبناءً عليه، فإنّ إنشاء الجمهورية ليس مطروحاً في هذا الوقت.
بالنسبة لحسن نصر الله، ووفقاً للمعتقد الإسلامي، يوجد الدنيا والآخرة. الموت ليس إلاّ البوابة التي تفصل بين العالمين. البعض يجتازها بمعاناة، والبعض الآخر بيسر وسهولة. الشهادة هي الشكل الأرقى للعبور الى العالم الآخر، لأنه عطاء آخر.
عندما "يموت" شهيد فكما لو أنه يدخل الى السماء حاملاً معه أغلى العطايا، وهذا هو سبب استقباله بشكل مختلف عن الآخرين. وعلى كل حال، يلحظ السيد حسن نصر الله أنه حتى الشعوب التي لا تؤمن بالله فإنها تكنّ احتراماً عظيماً للذين يقدّمون حياتهم لأجل شعبهم أو القضية التي يخدمونها.
ويوضح أنه اليوم وككل أب يفتقد ابنه البكر "هادي"، وأنه يستمد شجاعته من قناعته المطلقة بأنّ الشاب هو في نعيم أصفياء القدير المطلق.
ويلفت الأب الى أنه قبل شهادة هادي كانت صورته في بيتهم فقط إلاّ أنها اليوم في كل بيت "يوجد الكثير". وحسن نصر الله الذي يبدو سعيداً بالطريقة التي انتهت فيها حياة بكره. ويختم هذه النقطة موضحاً أنه فقد كائناً عزيزاً ولكنه يعلم أنهما سيلتقيان يوماً.
ويقول بالنسبة "للكاريزمية" التي يصفونه بها: إنه وبطبيعة الحال ليس في موقع إبداء الرأي، وإنّ الحكم هو للآخرين. ويوضح أنّ "الكاريزمية" بصورة عامة، أو التأثير الذي يمكن أن يكون لأحد على الآخرين، هو موهبة إلهية، ويمكن تنميتها عبر التثقّف واكتساب الخبرة. ولكن الثقافة والمهارة لا يمكن لها دائماً أن تجعل الشخص "كاريزمياً" ما لم يمتلك الموهبة، ويبدو أنّ هذا السحر الطبيعي لا ينقص السيد حسن نصر الله؛ كما أنه يمتلك، بكل تأكيد، قدرات ذهنية عالية.
قد يعود يوماً الى مقاعد المدرسة القرآنية ليصبح فقيهاً، عالماً بالأحكام. ولكن لهذه اللحظة حسن نصر الله قابع في السياسة أكثر منه في الدين، فضلاً عن نضال التحرير، وهو يحاول إعطاء الدينامية للحزب. قد يقول البعض: "إعطاؤه الديمقراطية" أو تحديثه. ولكن هذه المعاني لا تحمل في هذه الحالة دلالتها العادية في الإيحاء الغربي لأنّ حزب الله يبقى إسلامياً، هذه طبيعته، ويبقى مقاوماً، هذا واجبه.
لم يلعب كالأولاد.. فصار لاعباً كبيراً
رلى موفق
السيد حسن نصرالله "رقم صعب" في معادلة الصراع مع اسرائيل، شخصيته حظيت باحترام المؤيدين والخصوم معاً، دقيق جداً، ولا تحجب النظارتان بريق عينيه، عمامته السوداء تنسج لبشرته السمراء وقاراً يتفياً لحيته الاربعينية، فيما يلف رداؤه الاسود غموضاً يكسو الاوراق المستورة الرافض كشفها قبل ان تدق ساعة التسوية التي تدعور عقاربها في الجنوب.
ولـ كاريزما الامين العام لحزب الله فعلها في جمهوره. متحدث لبق وخطيب مفوّه وصاحب ارادة. تشحذ ايمانع الجامع عزيمته على مواجهة المصائب مهما كبرت، وان اصابته في فلذة كبه. فمن هو حسن نصرالله؟ وما ظروف نشأته ومراحل حياته منذ الطفولة حتى وصوله الى الامانة العامة لحزب الله؟
ابصر النور في حي للفقراء يعرف بـ"حي شرشبوك" الكائن في منطقة الكرنتينا، وفيه خليط من بيوت الاسمنت والزينك والخشب، يقطنه مزيج من اللبنانين من طوائف عدة وجنسيات مختلفة، حتى الارمن والاكراد. والده عبدالكريم نزح من البازورية – قضاء صور، شأن ابناء الارياف الذين يقصدون العاصمة بحثاً عن فرص عمل لضيق الامكانات، فوجد في الضواحي والاحياء الملاصقة لبيروت ملاذه في ظل الكلفة المرتفعة للسكن في العاصمة. وفي تلك الاحياء الفقيرة التي سماها الامام موسى الصدر "احزمة البؤس" وعى حسن طفولته ومراهقته وكوّن شخصيته.
اعتاش عبدالكريم واخوته من بيع الخضر والفاكهة بادئ الامر. وعندما تحسنت الحال قليلاً، فتح دكاناً متواضعاً في الحي، فأخذ حسن، بكر العائلة يقصده لمعاونة الوالد. واذ به كل مرة يجد نفسه جالساً على كرسي امام صورة كبيرة للامام الصدر معلقة على جدار الدكان، يتأمل في وجهه وتحمله الاحلام بعيداً. فالسيد الصدر بهي الطلة، جميل المظهر ويتسم بالوقار. تعلّق فتى الاعوام التسعة بالصورة وبصاحبها وراح يحلم بان يكون يوماً ما على مثال صاحبها.
باكراً، شعر بانه ليس كأقرانه في الحي. لم يكن هاجسه اللعب. كان الاولاد يذهبون الى البحر والنهر للسباحة، ويقصدون كل فسحة للعب بالكرة، فيما كان هو يذهب وحيداً الى المسجد سواء في سن الفيل او برج حمود او النبعة، لعدم وجود مسجد في الكرنتينا، كان اندفاعه نحو الدين داخلياً، وليس وليد تأثره بالمحيط. فجوّ المنزل لم يتعد حدود الالتزام الديني التقليدي في واجبات الصلاة والصوم الى حال من الانغماس القوي والتديّن الشديد. والاجواء في الكرنتينا تطغى عليها سمة الانفتاح والاختلاط المتعدد بين الاديان والطوائف. حين يستذكر طفولته وميله الباكر الى التدين، لا يجد سبباً سوى ذاك النزوع الداخلي النفسي والروحي والعقلي. وربما كان لصورة الامام الصادر تأثيرها المعنوي فيه، ذلك انه دأب وهو ابن تسعة، على النزول الى ساحة البرج لشراء الكتب من البسطات. كان يختار الكتب الاسلامية او تلك التي تتحدث عن الاسلام. وغالباً ما كان يجد الكتاب صعب الفهم عليه فيضعه جانباً للعودة اليه في المستقبل.
تلقّى علومه الابتدائية في مدرسة النجاح الخاصة في الحي. وكان في عداد آخر دفعة حازت الشهادة الابتدائية الرسمية (السرتيفيكا). يومها عنت له الشهادة كثيراً. من الشياح انتقل الى الثانوية التربوية في سن الفيل لمتابعة المرحلتين المتوسطة والثانوية، لكن الحرب التي نشبت عام 1975 دفعت العائلة الى مغادرة الكرنتينا والعودة الى الضيعة حيث اكمل المرحلة الثانوية في ثانوية صور.
خلال وجوده في الكرنتينا لم يكن لديه اي انتماء حزبي او تنظيمي رغم وجود احزاب لبنانية وتنظيمات فلسطينية عدة، وهذه كانت حال اهله. ولكن بعد عودته الى البازورية انتسب الى حركة "امل" كخيار طبيعي، وهو المتعلق على المستوى العاطفي واللاشعوري بالسيد موسى، كان يومها في الخامسة عشرة، وكانت "امل" تعرف بـ"حركة المحرومين". اختار الانتساب اليها رغم ان المناخ العام في البازورية تطغى عليه اللفحة اليسارية، حيث ينتمي معظم الاهالي الى الحزب الشيوعي والاحزاب اليسارية.
بدأ العمل الحزبي من آخر السلم، عنصراً في مجموعة مع شقيقه حسين الاصغر سناً، وسرعان ما اضحى مسؤولاً تنظيمياً عن الحركة في البلدة رغم صغر سنه. ولم تمضِ اشهر حتى قرر السفر الى النجف لتحصيل علومه الدينية بعدما سنحت الفرصة. كان حلم اهله ان يكون طبيباً وحلمه ان يصبح عالم دين. لكن الامكانات المادية كانت تحول دون تحقيق رغبته.
حين انتقل الى الجنوب عام 1976 اخذ يؤم مسجد صور حيث تعرف الى العلامة السيد محمد الغروي الذي كان السيد موسى انتدبه ليحل محله في صور. فاتحه برغبته في الذهاب الى الحوزة العلمية في النجف، فشجعه وسهل له الطريق وحمّله "رسالة توصية" الى السيد محمد باقر الصدر الذي كانت تجمعه به صداقة قوية. وهكذا كان. جمع نصرالله بعض المال من الاصحاب واعطاه والده ما تيسر. حجز بطاقة السفر واستقل الطائرة من مطار بيروت الى مطار بغداد ومنه بالباص الى النجف التي وصلها خالي الوفاض, غير ان المرء في النجف يلقى دائماً احتضاناً، شرط ان يتحلى بقدرة على العيش حياة متقشفة وتحمّل الفقر، والاكتفاء بالخبز والنوم على فراش اسفنج على الارض.
عندما وصل الى النجف، كان يحمل "رسالة التوصية". التقى مجموعة من الطلاب اللبنانيين طالباً ان يرافقه احدهم لتسليم السيد الصدر الرسالة، فكان ان عرفوه الى السيد عباس الموسوي الذي تربطه صلة وثيقة بالمرجع الديني، حين التقاه اعتقده عراقياً لبشرته السمراء الداكنة، واخذ يحدثه باللهجة الفصحى، فما كان من السيد الموسوي الا ان بادره: "انا لبناني من النبي شيت". هكذا بدأت علاقة نصرالله والموسوي الذي تحول اخاً وصديقاً واستاذاً ورفيق نضال، الى ان فقده بعد 16 سنة يوم اغتالته اسرائيل اميناً عاماً لحزب الله.
اهتمّ السيد الموسوي بالشاب اليافع بناء على طلب السيد الصدر. فيوم سلم الصدر الرسالة، نظر ايه وسأله اذا كان معه مال، فرد نصرالله: "لا املك شيئاً". فالتفت الى الموسوي قائلاً: "دروسه وتحصيله العلمي وغرفته ومتابعته امور من اهتمامك"، ومدّه بالمال لشراء الحاجات لحسن من ثياب وكتب وتأمين مصروفه الشهري.
بات السيد الموسوي يهتم بأدق التفاصيل في حياة الشاب الصغير. امّن له غرفة في الحوزة العلمية قريبة من منزله الذي يقطنه واسرته. فالمتزوجون تخصص لهم منازل، اما العازبون فيتقاسم كل اثنين او ثلاثة منهم غرفة مشتركة. ويحظى كل طالب براتب زهيد من المراجع الدينية التي يصبح لديها امكانات مالية من تبرعات المؤمنين الشرعية.
تكفل الموسوي دراسة نصرالله، فالنظام القائد في الحوزة هو نظام خاص، والدراسة تنقسم ثلاث مراحل: "المقدمات" يليها "السطوح" ثم "بحث الخارج" التي تعتمد على المحاضرات من خارج القرآن. ومن ينجز المرحلة الاولى وينتقل الى الثانية يصبح في امكانه تدريس ما درسه. كان عباس الموسوي انهى "المقدمات" وباشر درس "السطوح" فرح يدرّس المرحلة الاولى وتولى مجموعة طلاب متقاربي الاعمار بينهم نصرالله.
كان الموسوي جدياً وقاسياً على طلابه فاستطاعوا ان ينجزوا في عامين ما يحتاج طلاب الحوزة عادة الى انجازه في خمسة اعوام، اذ لم تكن تلك المجموعة تفيد من العطل المقررة في شهر رمضان وموسم الحج ولا العطل الاسبوعية. فتحولت الايام كلها متشابهة يطغى عليها التحصيل العلمي المتواصل من دون انقطاع ولا راحة.