من خطبة للإمام علي(ع) يذكر فيها خلقة الطاووس

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته




اللهم صل على محمد وال محمد

ومن أعجبها خلقاً الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل ، ونضَّد ألوانه في أحسن تنضيد ، بجناحٍ أشرج قصبه(1) وذنَبٍ أطال مسحبه ، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه وسما به مُظلاًّ على رأسه كأنه قِلعُ داريًّ عنجه نوتيُّه(2) يختال بألوانه ويميس بزيفانه(3)

تخال قصبه مداري من فضة(4) وما أُنبت عليه من عجيب داراته(5) وشموسه خالص العقيان(6) وفِلذَ الزبرجد . فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت : جَنيً جُنيَ من زهرة كل ربيع ! وإن ضاهيته بالملابس فهو كموشّى الحُلل ! وإن شاكلته بالحُلِيّ فهو كفصوصٍ ذات ألوان نُطِّقت باللجين المكلّل(7) ، يمشي مشي المرِح المختال ، ويتصفّحُ ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سِرباله وأصابيغ وشاحه !

فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زَقَا(8) مُعوِلاً يكاد يبُينُ عن إستغاثة ، ويشهدُ بصادق توجعِهِ ، لأن قوائمه حُمشٌ كقوائم الدِّيكةِ الخلاسيّة(9)

وله في موضع العُرف قُنزعةٌ خضراء موشاة . ومخرجُ عنقه كالإبريق ومغرزها إلى حيثُ بطنه كصبغ الوسمة اليمانية(10) أو كحريرة مُلبسة مرآة ذات صقال(11) . وكأنه مُلفعٌ بمِعجزٍ أسحمَ إلا أنه يخيّل لكثرة مائه وشدة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به.

ومع فتقِ سمعه خطٌ كمستدق القلم في لون الأقحوان أبيضُ يَقَقٌ ، فهو ببياضة في سواد ماهنالك يتألق . وقلَّ صِبغٌ إلا وقد أخذ منه بقسط وعلاه بكثرة صقالهِ وبريقهِ وبصيصِ ديباجهِ ورونقه(12) ، فهو كالأزاهير المبثوثة لم تُربِّها أمطارُ ربيعٍ ولا شموسُ قيظ .

وقد ينحسر من ريشهِ ويعَرَى من لباسه فيسقُطُ تَترَى ، وينبُت تِباعاً ، فينحتَُ من قصبه انحتاتَ أوراق الأغصان(13) . ثم يتلاحق نامياً حتى يعود كهيئتة قبل سقوطه : لا يخالفُ سالفَ ألوانه ولا يقع لونٌ في غير مكانه.

وإذا تصفحت شعرةً من شعرات قصبهِ أرتكَ حُمرةً وردية ، وتارة خضرةً زبرجديّة ، وأحياناً صفرةً عسجدية(14) ، فكيف تصل إلى صفة هذا عمائقُ الفِطن أو تبلغُه قرائح العقول(15) أو تستنظمُ وصفَه أقوالُ الواصفين وأقلُّ أجزائه قد أعجزَ الأوهامَ أن تدركه والألسنة أن تصفه !



(1) - أشرج قصبه : داخل بين آحاده ونظمها على اختلافها في الطول والقصر
(2) - القلع : شراع السفينة . عنجه : جذبه فرفعه . النوتي : الملاّح
(3) - الزيفان : التبختر ، ويريد به حركة ذنب الطاووس يميناً وشمالا
(4) - القصب : الريش . المداري ، جمع مدرى. والمدرى والمدراة: أداة ذات أسنان كأسنان المشط
(5) - الدارات جمع دارة، وهي بالنسبة للشمس كالهالة بالنسبة للقمر
(6) - العقيان : الذهب الخالص
(7) - اللجين : الفضة . المكلل : المزين بالجواهر
(8) - زقا يزقو : صاح
(9) - حمش، جمع أحمش،أي:دقيق . والديك الخلاسي: الديك المتولد بين دجاجة وديك من لونين مختلفين
(10) - مغرزها: الموضع الذي غرز فيه العنق منتهياً الى مكان البطن . الوسمة:نبات يخضَّب به
(11) - الصقال : الجلاء
(12) - علاه : فاقه . البصيص : اللمعان
(13) - ينحسر من ريشه:يتكشف منه ويعرى. تترى: شيئاً بعد شيئ، ينحت:يسقط وينقشر. انحتات الاوراق: تناثر الاوراق
(14) - عسجديه : ذهبيه
(15) - عمائق ، جمع عميقة . القرائح جمع قريحة وهي : الخاطر والذهن


** من كتاب ( روائع نهج البلاغة ) لجورج جرداق **