الصدر بين مرجعية الحكيم ومرجعية الخوئي
يمكن القول أن وفاة السيد محسن الحكيم أثرت تأثيراً بالغاً على مرجعية الشهيد الصدر الذي ألف آليات التعامل معه، وترعرع نموه وإبداعه الفكري بالتزامن مع مرجعيته، رغن سياسته المطلبية المترددة، فهذه الوفاة ستضع الشهيد الصدر أمام مرحلة جديدة وقاسية، فعليه أولاً أن يكتشف عبر المحاولة والتجريب آليات تعامل ومعالم المرجعية الجديدة(مرجعية السيد الخوئي) وعليه أن يفكر في ملء فراغات هذا التحول أو أن يواجه ما يفرضه من تحديات، وهذا يتوقف على الخط والمنهج المرجعي الجديد، وما يتيحه من ممكنات تؤسس لتعاون إيجابي ينسجم مع مشروع الشهيد الصدر الذي تفصله فاصلة كبيرة في الطموح والمضمون عن الإتجاه الفكري والفقهي والسياسي القائم في الإطار المرجعي.
ولكي نعرف مدى الصعوبة التي واجهها الشهيد الصدر في هذا المجال لا بد أن نعرف أولاً المشتركات والفوارق بين مرجعية الحكيم والخوئي، فهما يتقاربان في إنتمائهما إلا ذات الإتجاه الفقهي الشيعي المتوارث وإلى فهم محدد لدور الفقيه في الأمة ويتوحدان عملياً وليس نظرياً في عدم السعي إلى تأسيس الدولة الإسلامية أو خوض المواجهة السياسية مع السلطات المنحرفة إلى حد الحسم، ويجر هذا التوحد الأخير إلى توحد جديد يتمثل بإبتعادهما العلني عن فكرة العمل الحزبي.
ومع ذلك يبقى الفارق كبيراً ومهماً بين مرجعية الحكيم ومرجعية الخوئي، وتبقى هنالك مسافات حتى في المشتركات إذ تبدو الأولى من خلال السلوك الميداني والتجربة العملية أكثر مرونة في النظرة إلى المجتمع، والنظرة إلى غرتباط الفقيه فيه، وأيضاً الرؤية الفكرية لتحديات الواقع الفكري العالمي.
ولعل الحوار الذي جرى في مرحلة مهمة بين الإمام الخميني والسيد محسن الحكيم حول دور الفقيه يسلط الضوء على قناعات الأخير مثلما يشير إلى الإثنينية في أساس الفكر السياسي الشيعي تاريخياً.
فعندما دعا الإمام الخميني السيد الحكيم إلى التحرك بعد إنتفاضة 15 خرداد أجابه(إن الناس لا يطيعوننا لو تحركنا بعنف الناس يكذبون إنهم عبيد الشهوات ولا يفتحون صدروهم للدين. أجابه الإمام الخميني باقولLكيف تقول إن الناس يكذبون هؤلاء الناس ضحوا بأرواحهم وتحملوا الإضطهاد والمعاناة وسجنوا وأبعدوا عن ديارهم وسلبت أموالهم كيف يكون مثل هؤلاء الناس الذين واجهوا الرصاص بصدورهم يكذبون.
إن مرجعية الحكيم ذهبت في سياستها الإجتماعية إلى حدود فكري وثقافية محدودة، إذ أنها حرصت على تأسيس مكتبات تثقيفية وواجهت بفتواها الشهيرة المد الفكري الماركسي الذي هيمن على الشارع العراقي خلال الخمسينات، لقد وجهت هذه الفتوى تنبيهاَ مهماً إلى خطر الإلحاد الشيوعي، ربما كان لها مفعول سياسي غير مباشر على نفوذ الشيوعين في العراق. كما أن طبيعة المرحلة السياسية في بداية النصف الثاني من القرن الماضي أتاحت لمرجعية الحكيم بعض المرونة أو حتى التعاطف مع التيار الإسلامي داخل الكيان الشيعي، ولقد ترعرع حزب الدعوة في ظل هذه المرجعية.
ومن هنا يتجلي الفارق الكبير بين مرجعية الحكيم والخوئي(الفقهية-التقليدية) البحتة في الناحية العملية وليس الناحية النظرية طبعاً، والتي إنكفأت فضلاً عن النشاط السياسي وعن أي نشاط آخر ثقافي أو فكري يحاكي الواقع الإجتماعي.
وفي ظل هذه الفوارق فإن التحدي الذي سيواجهه الشهيد الصدر ليس خسارة في المجال الحيوي من المرونة الذي إنعدم في ظل مرجعية الخوئي فحسب إنما إمكانية وصول الأمور إلى التصادم مع مضمون مشروعه الإسلامي، وذلك عندما تفكر السلطة أن تدخل من خلال هذا الإنعزال للمرجعية العليا إلى الضغط على هذا المشروع، وهذا ما حصل فعلاً ظظظظن فتحت هذا الإنعزال والإنكفاء عن الواقع السياسي والإصرار الصارم في عدم الولوج فيه سيصبح من الممكن أن يتحول هذا الإنكفاء إلى تصادم مع حركة مشروع الشهيد الصدر... وفي ظل هذا الحذر الأمني الذي يدفع المرجعية العليا أن تقول(بجواز الإنضمام إلى حزب البعث) سيقدم الشهيد إصدار فتوى تحريم الإنتماء إلى هذا الحزب، وستدخل المواجهة مع السلطة أطواراً أخرى خاضعة لطوارئ غير محسوبة في إستراتيجية كلية.
وهكذا يكون الشهيد الصدر الأول الذي لم يفرغ بعد من إستنفاد كل طاقاته من أجل تعبئة الوضع الشيعي ضد في العالم للدفاع عن مرجعية الحكيم أما مضايقة وتحرش وإبتزاز بدأه الحزب الجديد القادم للسطة، وإنتهى مصدوماً بهذا الواقع... يكون الشهيد قد تعرض إلى صدمة أخرى بوفاة السيد الحكيم لم يفصلها فاصل زمني كبير عن الصدمة الأولى، وهذه الصدمات ستكون مسؤولة إلى حد كبير عن إنكفاء جديد داخل الحوزة مشفوعاً بمرور الزمن بسلسلة أخرى من الصدمات والتطورات السياسية دفعته إلى التفكير بعمل إستشهادي في العام 1976 لمعالجة الضغوط التي يتعرض لها الواقع الإسلامي وفيما أن إنتفاضة رجب 1977 أعطت أملاً ضعيفاً للشهيد الصدر جاءت الثورة الإسلامية في إيران لتفتح داخل العراق ملفاً جديداً للشهيد الصدر والحركة الإسلامية برمتها.
نعود ونقول أن الفتوى حول حزب البعث كمثل يمثل مستوى متقدماً ل(التصادم) الحتمي بين الشهيد الصدر ومرجعية الخوئي الذي يمكن أن يوجده إختلاف التوجهات وتفكير السلطة في محالة إستثمار هذا الإختلاف، أما ما قبل هذا المثل فإن هنالك أمثلة أخرى برزت على الفور لتخلق معنى الصدمة الثانية للشهيد الصدر بالمرحلة الجديدة، ففي 25/1/1971م كان السيد الخوئي يقول رداً على سؤال مفاده(هل أن حكومة البعث في العراق من وجهة نظركم قد عملت ضدكم أو ضد الحوزة العلمية أو الإيرانيين بما لا ينسجم مع الموازين الإنسانية علماً بأن المغرضين قد أشاعوا بأن الحكومة قد أسائت معاملتكم؟ يقول: بعد السلام... إنني لم أر غير الحسن من هذه الحكومة الموقرة، أنا بخصوص الحوزة العلمية والإيرانيين- بماء على ما سمعته ممن أعتمد عليهم أن الحكومة قد أحسنت معاملتهم.
وقبل ذلك وفي العام الذي أعدم فيه الشهداء الخمية وفي سياق مراسلات شفوية بين الإمام الخميني ومرجعية الخوئي يقول هذا الأخير(إنني لا أرى مصلحة في الصدام مع هذا النظام في هذه الظروف وإني أخاف...)
المصدر
محمد باقر الصدر بين دكتاتوريتين