يا هشام !.. إنّ لقمان قال لابنه : تواضع للحق تكن أعقل الناس ، يا بني !.. إنّ الدنيا بحرٌ عميقٌ قد غرق فيه عالمٌ كثيرٌ ، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وجسرها الإيمان ، وشراعها التوكل ، وقيّمها العقل ، ودليلها العلم ، وسكّانها الصبر ....
يا هشام !.. لو كان في يدك جوزةٌ وقال الناس : لؤلؤةٌ ، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنّها جوزةٌ ، ولو كان في يدك لؤلؤةٌ وقال الناس : أنّها جوزةٌ ، ما ضرّك وأنت تعلم أنّها لؤلؤةٌ !....
يا هشام !.. مَن سلّط ثلاثاّ على ثلاث ، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله : مَن أظلم نور فكره بطول أمله ، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه ، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه ، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله ، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه .
يا هشام !.. كيف يزكو عند الله عملك ؟.. وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربّك ، وأطعت هواك على غلبة عقلك .
يا هشام !.. الصبر على الوحدة علامة قوّة العقل ، فمَن عقل عن الله تبارك وتعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ، ورغب فيما عند ربّه ، وكان أنسه في الوحشة ، وصاحبه في الوحدة ، وغناه في العيلة ، ومعزّه في غير عشيرة ....
يا هشام !.. إن كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك ، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيءٌ من الدنيا يغنيك.
يا هشام !.. إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا ، فكيف الذنوب ؟.. وترك الدنيا من الفضل ، وترك الذنوب من الفرض....
يا هشام !.. لاتمنحوا الجهّال الحكمة فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
يا هشام !.. كما تركوا لكم الحكمة فاتركوا لهم الدنيا....
يا هشام !.. رحم الله مَن استحيا من الله حق الحياء : فحفظ الرأس وما حوى ، والبطن وما وعى ، وذكر الموت والبلى ، وعلم أنّ الجنّة محفوفة بالمكاره ، والنار محفوفة بالشهوات....
يا هشام !.. اصلح أيامك الذي هو أمامك ، فانظر أي يوم هو ؟.. وأعد له الجواب فإنك موقوفٌ ومسؤولٌ ، وخذ موعظتك من الدهر وأهله ، فإنّ الدهر طويلةٌ قصيرةٌ ، فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك ، واعقل عن الله ، وانظر في تصرف الدهر وأحواله ، فإنّ ما هو آتٍ من الدنيا كما ولّى منها فاعتبر بها .
وقال علي بن الحسين (ع) : إنّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها وسهلها وجبلها ، عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال ، ثم قال : أو لا حرٌّ يدع هذه اللماظة ( أي البقية القليلة ) لأهلها ؟.. يعني الدنيا ، فليس لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها ، فإنه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس.
يا هشام !.. إنّ كل الناس يبصر النجوم ، ولكن لا يهتدي بها إلا مَن يعرف مجاريها ومنازلها ، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ، ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها.
يا هشام !.. إنّ المسيح (ع) قال للحواريين : يا عبيد السوء !.. يهوّلكم طول النخلة وتذكرون شوكها ومؤنة مراقيها ، وتنسون طيب ثمرها ومرافقتها ، كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة فيطول عليكم أمده ، وتنسون ما تفضون إليه من نعيمها ونورها وثمرها .
يا عبيد السوء !.. نقّوا القمح وطيّبوه ، وادقّوا طحنه تجدوا طعمه ، ويهنّئكم أكله ، كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه تجدوا حلاوته ، وينفعكم غبّه .
بحق أقول لكم : لو وجدتم سراجا يتوقّد بالقطران في ليلة مظلمة لاستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتنه ، كذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه ، ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها .
يا عبيد الدنيا !.. بحق أقول لكم : لا تدركون شرف الآخرة إلا بترك ما تحبون ، فلا تنظروا بالتوبة غدا ، فإنّ دون غد يوماً وليلةً ، وقضاء الله فيهما يغدو ويروح .
بحق أقول لكم : إنّ مَن ليس عليه دَين من الناس أروح وأقلّ هماً ممن عليه الدين وإن أحسن القضاء ، وكذلك مَن لم يعمل الخطيئة أروح وأقلّ هماً ممن عمل الخطيئة وإن أخلص التوبة وأناب ، وإنّ صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس يحقّرها لكم ويصغّرها في أعينكم ، فتجتمع وتكثر فتحيط بكم .
بحق أقول لكم : إنّ الناس في الحكمة رجلان : فرجلٌ أتقنها بقوله وصدّقها بفعله ، ورجلٌ أتقنها بقوله وضيّعها بسوء فعله ، فشتان بينهما ، فطوبى للعلماء بالفعل ، وويلٌ للعلماء بالقول .
يا عبيد السوء !.. اتخذوا مساجد ربكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم ، واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى ، ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات ، إنَّ أجزعكم عند البلاء لأشدكم حباً للدنيا ، وإنّ أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا .
يا عبيد السوء !.. لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة ، ولا بالثعالب الخادعة ، ولا بالذئاب الغادرة ، ولا بالأُسد العاتية ، كما تفعل بالفراس كذلك تفعلون بالناس فريقا تخطفون ، وفريقا تخدعون ، وفريقا تقدرون بهم .
بحق أقول لكم : لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحا وباطنه فاسداً كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم ، وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة ، ولا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيّب ويمسك النخالة ، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغلّ في صدروكم .
يا عبيد الدنيا !.. إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه .
يا بني إسرائيل !.. زاحموا العلماء في مجالسهم ولوجثْواً على الركب ، فإنّ الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر.